فصل: الفائدة الثانية عشرة: ضرورة ذكر الحمد لله في موضعها وإلا لم يحصل المقصود منها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الفائدة الثالثة: اللام في قوله الحمد لله:

اللام في قوله {الحمد لله} يحتمل وجوهًا كثيرة: أحدها: الاختصاص اللائق كقولك الجل للفرس وثانيها: الملك كقولك الدار لزيد وثالثها: القدرة والاستيلاء كقولك البلد للسلطان، واللام في قولك {الحمد لله} يحتمل هذه الوجوه الثلاثة فإن حملته على الاختصاص اللائق فمن المعلوم أنه لا يليق الحمد إلا به لغاية جلاله وكثرة فضله وإحسانه، وإن حملته على الملك فمعلوم أنه تعالى مالك للكل فوجب أن يملك منهم كونهم مشتغلين بحمده، وإن حملته على الاستيلاء والقدرة فالحق سبحانه وتعالى كذلك لأنه واجب لذاته وما سواه ممكن لذاته والواجب لذاته مستولٍ على الممكن لذاته، ف {الحمد لله} بمعنى أن الحمد لا يليق إلا به وبمعنى أن الحمد ملكه وملكه، وبمعنى أنه هو المستولي على الكل والمستعلي على الكل.

.الفائدة الرابعة: الربط بين قوله: {الحمد لله} المشتمل على ثمانية أحرف، وأبواب الجنة الثمانية:

قوله {الحمد لله} ثمانية أحرف، وأبواب الجنة ثمانية، فمن قال هذه الثمانية عن صفاء قلبه استحق ثمانية أبواب الجنة.

.الفائدة الخامسة: الحمد لفظة مفردة دخل عليها حرف التعريف:

الحمد لفظة مفردة دخل عليها حرف التعريف، وفيه قولان: الأول: أنه إن كان مسبوقًا بمعهود سابق انصرف إليه، وإلا يحمل على الاستغراق صونًا للكلام عن الإجمال والقول الثاني: أنه لا يفيد العموم إلا أنه يفيد الماهية والحقيقة فقط، إذا عرفت هذه فنقول: قوله {الحمد لله} إن قلنا بالقول الأول: أفاد أن كل ما كان حمدًا وثناء فهو لله وحقه وملكه، وحينئذٍ يلزم أن يقال: إن ما سوى الله فإنه لا يستحق الحمد الثناء ألبتة، وإن قلنا بالقول الثاني: كان معناه أن ماهية الحمد حق الله تعالى وملك له، وذلك ينفي كون فرد من أفراد هذه الماهية لغير الله، فثبت على القولين أن قوله {الحمد لله} ينفي حصول الحمد لغير الله.
فإن قيل: أليس أن المنعم يستحق الحمد من المنعم عليه، والأستاذ يستحق الحمد من التلميذ والسلطان العادل يستحق الحمد من الرعية، وقال عليه السلام: «من لم يحمد الناس لم يحمد الله».
قلنا: إن كل من أنعم على غيره بإنعام فالمنعم في الحقيقة هو الله تعالى، لأنه لولا أنه تعالى خلق تلك الداعية في قلب ذلك المنعم وإلا لم يقدم على ذلك الإنعام، ولولا أنه تعالى خلق تلك النعمة وسلط ذلك المنعم عليها ومكن المنعم عليه من الانتفاع لما حصل الانتفاع بتلك النعمة، فثبت أن المنعم في الحقيقة هو الله تعالى.

.الفائدة السادسة: لا محمود إلا الله ودلالة العقل عليه:

أن قوله {الحمد لله} كما دل على أنه لا محمود إلا الله، فكذلك العقل دل عليه، وبيانه من وجوه: الأول: أنه تعالى لو لم يخلق داعية الإنعام في قلب المنعم لم ينعم فيكون المنعم في الحقيقة هو الله الذي خلق تلك الداعية وثانيها: أن كل من أنعم على الغير فإنه يطلب بذلك الإنعام عوضًا إما ثوابًا أو ثناء أو تحصيل حق أو تخليصًا للنفس من خلق البخل، وطالب العوض لا يكون منعمًا، فلا يكون مستحقًا للحمد في الحقيقة، أما الله سبحانه وتعالى فإنه كامل لذاته، والكامل لذاته لا يطلب الكمال، لأن تحصيل الحاصل محال، فكانت عطاياه جودًا محضًا وإحسانًا محضًا، فلا جرم كان مستحقًا للحمد، فثبت أنه لا يستحق الحمد إلا الله تعالى وثالثها: أن كل نعمة فهي من الموجودات الممكنة الوجود، وكل ممكن الوجود فإنه وجد بإيجاد الحق إما ابتداء وإما بواسطة، ينتج أن كل نعمة فهي من الله تعالى ويؤكد ذلك بقوله تعالى: {وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ الله} [النحل: 53] والحمد لا معنى له إلا الثناء على الإنعام فلما كان لا إنعام إلا من الله تعالى، وجب القطع بأن أحدًا لا يستحق الحمد إلا الله تعالى ورابعها: النعمة لا تكون كاملة إلا عند اجتماع أمور ثلاثة: أحدها: أن تكون منفعة، والانتفاع بالشيء مشروط بكونه حيًا مدركًا، وكونه حيًا مدركًا لا يحصل إلا بإيجاد الله تعالى وثانيها: أن المنفعة لا تكون نعمة كاملة إلا إذا كانت خالية عن شوائب الضرر والغم، وإخلاء المنافع عن شوائب الضرر لا يحصل إلا من الله تعالى.
وثالثها: أن المنفعة لا تكون نعمة كاملة إلا إذا كانت آمنة من خوف الانقطاع، وهذا الأمر لا يحصل إلا من الله تعالى، إذا ثبت هذا فالنعمة الكاملة لا تحصل إلا من الله تعالى، فوجب أن لا يستحق الحمد الكامل إلا الله تعالى، فثبت بهذه البراهين صحة قوله تعالى {الحمد لله}.

.الفائدة السابعة: عجز الإنسان عن حمد الله وشكره:

قد عرفت أن الحمد عبارة عن مدح الغير بسبب كونه منعمًا متفضلًا، وما لم يحصل شعور الإنسان بوصول النعمة إليه امتنع تكليفه بالحمد والشكر، إذا عرفت هذا فنقول: وجب كون الإنسان عاجزًا عن حمد الله وشكره ويدل عليه وجوه:
الأول: أن نعم الله على الإنسان كثيرة لا يقوى عقل الإنسان على الوقوف عليها، كما قال تعالى: {وإن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34 النحل: 18] إذا امتنع وقوف الإنسان عليها امتنع اقتداره على الحمد والشكر والثناء اللائق بها.
الثاني: أن الإنسان إنما يمكنه القيام بحمد الله وشكره إذا أقدره الله تعالى على ذلك الحمد والشكر وإذا خلق في قلبه داعية إلى فعل ذلك الحمد، والشكر، وإذا زال عنه العوائق والحوائل، فكل ذلك إنعام من الله تعالى، فعلى هذا لا يمكنه القيام بشكر الله تعالى إلا بواسطة نعم عظيمة من الله تعالى عليه، وتلك النعم أيضًا توجب الشكر، وعلى هذا التقدير: فالعبد لا يمكنه الإتيان بالشكر والحمد إلا عند الإتيان به مرارًا لا نهاية لها، وذلك محال، والموقوف على المحال محال، فكان الإنسان يمتنع منه الإتيان بحمد الله وبشكره على ما يليق به، الثالث: أن الحمد والشكر ليس معناه مجرد قول القائل بلسانه {الحمد لله} بل معناه علم المنعم عليه بكون المنعم موصوفًا بصفات الكمال والجلال وكل ما خطر ببال الإنسان من صفات الكمال والجلال فكمال الله وجلاله أعلى وأعظم من ذلك المتخيل والمتصور، وإذا كان كذلك امتنع كون الإنسان آتيًا بحمد الله وشكره وبالثناء عليه.
الرابع: أن الاشتغال بالحمد والشكر معناه أن المنعم عليه يقابل الإنعام الصادر من المنعم بشكر نفسه وبحمد نفسه وذلك بعيد لوجوه: أحدها: أن نعم الله كثيرة لا حد لها فمقابلتها بهذا الاعتقاد الواحد وبهذه اللفظة الواحدة في غاية البعد، وثانيها: أن من اعتقد أن حمده وشكره يساوي نعم الله تعالى فقد أشرك، وهذا معنى قول الواسطي الشكر شرك، وثالثها: أن الإنسان محتاج إلى إنعام الله في ذاته وفي صفاته وفي أحواله، والله تعالى غني عن شكر الشاكرين وحمد الحامدين، فكيف يمكن مقابلة نعم الله بهذا الشكر وبهذا الحمد، فثبت بهذه الوجوه أن العبد عاجز عن الإتيان بحمد الله وبشكره فلهذه الدقيقة لم يقل أحمدوا الله، بل قال {الحمد لله} لأنه لو قال احمدوا الله فقد كلفهم ما لا طاقة لهم به، أما لما قال {الحمد لله} كان المعنى أن كمال الحمد حقه وملكه، سواء قدر الخلق على الإتيان به أو لم يقدروا عليه؛ ونقل أن داود عليه السلام قال: يا رب كيف أشكرك وشكري لك لا يتم إلا بإنعامك عليّ وهو أن توفقني لذلك الشكر؟ فقال: يا داود لما علمت عجزك عن شكري فقد شكرتني بحسب قدرتك وطاقتك.

.الفائدة الثامنة: قول العبد الحمد لله:

عن النبي عليه الصلاة والسلام، أنه قال: «إذا أنعم الله على عبده نعمة فيقول العبد {الحمد لله} فيقول الله تعالى: انظروا إلى عبدي أعطيته ما لا قدر له فأعطاني ما لا قيمة له» وتفسيره أن الله إذا أنعم على العبد كان ذلك الأنعام أحد الأشياء المعتادة مثل أنه كان جائعًا فأطعمه، أو كان عطشانًا فأرواه، أو كان عريانًا فكساه، أما إذا قال العبد {الحمد لله} كان معناه أن كل حمد أتى به أحد من الحامدين فهو لله، وكل حمد لم يأتِ به أحد من الحامدين وأمكن في حكم العقل دخوله في الوجود فهو لله، وذلك يدخل فيه جميع المحامد التي ذكرها ملائكة العرش والكرسي وساكنو أطباق السموات وجميع المحامد التي ذكرها جميع الأنبياء من آدم إلى محمد صلوات الله عليهم وجميع المحامد التي ذكرها جميع الأولياء والعلماء وجميع الخلق وجميع المحامد التي سيذكرونها إلى وقت قولهم: {دعواهم فِيهَا سبحانك اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَم وَءاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} [يونس: 10] ثم جميع هذه المحامد متناهية، وأما المحامد التي لا نهاية لها هي التي سيأتون بها أبد الآباد ودهر الداهرين، فكل هذه الأقسام التي لا نهاية لها داخلة تحت قول العبد: {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} فلهذا السبب قال تعالى: «انظروا إلى عبدي قد أعطيته نعمة واحدة لا قدر لها فأعطاني من الشكر ما لا حد له ولا نهاية له».
أقول: هاهنا دقيقة أخرى، وهي أن نعم الله تعالى على العبد في الدنيا متناهية، وقوله {الحمد لله} حمد غير متناهٍ، ومعلوم أن غير المتناهي إذا سقط منه المتناهي بقي الباقي غير متناهٍ، فكأنه تعالى يقول: عبدي، إذا قلت {الحمد لله} في مقابلة تلك النعمة فالذي بقي لك من تلك الكلمة طاعات غير متناهية، فلابد من مقابلتها بنعمة غير متناهية، فلهذا السبب يستحق العبد الثواب الأبدي والخير السرمدي، فثبت أن قول العبد {الحمد لله} يوجب سعادات لا آخر لها وخيرات لا نهاية لها.

.الفائدة التاسعة: الوجود خير من العدم:

لا شك أن الوجود خير من العدم، والدليل عليه أن كل موجود حي فإنه يكره عدم نفسه، ولولا أن الوجود خير من العدم وإلا لما كان كذلك، وإذا ثبت هذا فنقول وجود كل شيء ما سوى الله تعالى فإنه حصل بإيجاد الله وجوده وفضله وإحسانه، وقد ثبت أن الوجود نعمة، فثبت أنه لا موجود في عالم الأرواح والأجسام والعلويات والسفليات إلا ولله عليه نعمة ورحمة وإحسان، والنعمة والرحمة والإحسان موجبة للحمد والشكر، فإذا قال العبد {الحمد لله} فليس مراده الحمد لله على النعم الواصلة إلى بل المراد، الحمد لله على النعم الصادرة منه وقد بينا أن إنعامه واصل إلى ما كل سواه، فإذا قال العبد الحمد لله كان معناه الحمد لله على إنعامه على كل مخلوق خلقه وعلى كل محدث أحدثه من نور وظلمة وسكون وحركة وعرش وكرسي وجني وأنسي وذات وصفة وجسم وعرض إلى أبد الآباد ودهر الداهرين، وأنا أشهد أنها بأسرها حقك وملكك وليس لا حد معك فيها شركة ومنازعة.

.الفائدة العاشرة: التسبيح مقدم على التحميد:

لقائل أن يقول: التسبيح مقدم على التحميد، لأنه يقال سبحانك الله والحمد لله فما السبب هاهنا في وقوع البداية بالتحميد؟ والجواب أن التحميد يدل على التسبيح دلالة التضمن، فإن التسبيح يدل على كونه مبرأ في ذاته وصفاته عن النقائص والآفات، والتحميد يدل مع حصول تلك الصفة على كونه محسنًا إلى الخلق منعمًا عليهم رحيمًا بهم، فالتسبيح إشارة إلى كونه تعالى تامًا والتحميد يدل على كونه تعالى فوق التمام، فلهذا السبب كان الابتداء بالتحميد أولى، وهذا الوجه مستفاد من القوانين الحكمية، وأما الوجه اللائق بالقوانين الأصولية فهو أن الله تعالى لا يكون محسنًا بالعباد إلا إذا كان عالمًا بجميع المعلومات ليعلم أصناف حاجات العباد، وإلا إذا كان قادرًا على كل المقدورات ليقدر على تحصيل ما يحتاجون إليه، وإلا إذا كان غنيًا عن كل الحاجات، إذ لو لم يكن كذلك لكان اشتغاله بدفع الحاجة عن نفسه يمنعه عن دفع حاجة العبد فثبت أن كونه محسنًا لا يتم إلا بعد كونه منزهًا عن النقائض والآفات، فثبت أن الابتداء بقوله {الحمد لله} أولى من الابتداء بقوله سبحان الله.

.الفائدة الحادية عشرة: الحمد لله له تعلق بالماضي وتعلق بالمستقبل:

أما تعلقه بالماضي فهو أنه يقع شكرًا على النعم المتقدمة، وأما تعلقه بالمستقبل فهو أنه يوجب تجدد النعم في الزمان المستقبل، لقوله تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] والعقل أيضًا يدل عليه، وهو أن النعم السابقة توجب الإقدام على الخدمة، والقيام بالطاعة، ثم إذا اشتغل بالشكر انفتحت على العقل والقلب أبواب نعم الله تعالى، وأبواب معرفته ومحبته، وذلك من أعظم النعم، فلهذا المعنى كان الحمد بسبب تعلقه بالماضي يغلق عنك أبواب النيران، وبسبب تعلقه بالمستقبل يفتح لك أبواب الجنان، فتأثيره في الماضي سد أبواب الحجاب عن الله تعالى؛ وتأثيره في المستقبل فتح أبواب معرفة الله تعالى، ولما كان لا نهاية لدرجات جلال الله فكذلك لا نهاية للعبد في معارج معرفة الله، ولا مفتاح لها إلا قولنا الحمد لله، فلهذا السبب سميت سورة الحمد بسورة الفاتحة.

.الفائدة الثانية عشرة: ضرورة ذكر الحمد لله في موضعها وإلا لم يحصل المقصود منها:

{الحمد لله} كلمة شريفة جليلة لكن لابد من ذكرها في موضعها وإلا لم يحصل المقصود منها، قيل للسري السقطي: كيف يجب الإتيان بالطاعة؟ قال: أنا منذ ثلاثين سنة أستغفر الله عن قولي مرة واحدة الحمد لله، فقيل كيف ذلك؟ قال: وقع الحريق في بغداد واحترقت الدكاكين والدور فأخبروني أن دكاني لم يحترق فقلت الحمد لله وكان معناه أني فرحت ببقاء دكاني حال احتراق دكاكين الناس وكان حق الدين والمروءة أن لا أفرح بذلك فأنا في الاستغفار منذ ثلاثين سنة عن قولي الحمد لله، فثبت بهذا أن هذه الكلمة وإن كانت جليلة القدر إلا أنه يجب رعاية موضعها، ثم إن نعم الله على العبد كثيرة، إلا أنها بحسب القسمة الأولى محصورة في نوعين: نعم الدنيا، ونعم الدين، ونعم الدين أفضل من نعم الدنيا لوجوه كثيرة، وقولنا الحمد لله كلمة جليلة شريفة فيجب على العاقل إجلال هذه الكلمة من أن يذكرها في مقابلة نعم الدنيا، بل يجب أن لا يذكرها إلا عند الفوز بنعم الدين، ثم نعم الدين قسمان: أعمال الجوارح، وأعمال القلوب، القسم الثاني: أشرف، ثم نعم الدنيا قسمان: تارة تعتبر تلك النعم من حيث هي نعم، وتارة تعتبر من حيث إنها عطية المنعم، والقسم الثاني: أشرف، فهذه مقامات يجب اعتبارها حتى يكون ذكر قولنا الحمد لله موافقًا لموضعه لائقًا بسببه.